مقدمة:

فى عام 1935 م منحت الحكومة المصرية الرائد جاير اندرسون الذى كان يقيم فى القاهرة حق الاقامة فى واحد من اقدم المنازل العربية الواقعة بجوار جامع احمد بن طولون. وهذا المنزل عبارة عن بيتين يتصلان من اعلى بقنطرة ( ساباط ). البيت الاول من انشاء الحاج محمد بن سالم الجزار فى سنة 1041 هـ / 1631 م ويقع على يمين الداخل من الدهليز الموصل الى الباب الشرقى من جامع ابن طولون. و البيت الثانى شيده المعلم عبد القادر الحداد فى سنة 947 هـ / 1540م . وقد شيدت القنطرة التى تصل بينهما فى تاريخ غير معلوم ويعرف حاليا بمتحف بيت الكريتلية نسبة الى اخر سيدة سكنت احد المنزلين ينتهى اصلها الى عائلة من جزيرة كريت، ويعرف ايضا بالنسبة للزائرين وطبقا للاسم الذى اطلق عليه من قبل المجلس الاعلى للآثار بمتحف جاير اندرسون وهو ضابط انجليزى كان من هواة الآثار الاسلامية.

وخلال اقامة اندرسون فى بيت الكريتلية استطاع تجميع مجموعة متنوعة من الاثاث و السجاجيد وأشياء اخرى من الفنون و الحرف الشرقية المصرية وقد استقر اندرسون بمصر منذ عام 1907 م الى ان احيل الى التقاعد سنة 1924 م فأصبح لديه الوقت الكافى لتجميع مجموعته، ومن بين هذه المجموعة 1100 قطعة تقريبا من الزجاج المختوم ومعظمها يشبه النقود وهى ذات كتابات عربية. وفى عام 1942 م اضطر جاير اندرسون الى مغادرة مصر بسبب مرضه . واستمرت الحكومة المصرية فى التقليد الذى اقره اندرسون وهو السماح لعامة الشعب بزيارة مجموعته. وفى عام 1943 م تم تسجيل مجموعة جاير اندرسون من المتحف ثم قامت وزارة الارشاد العامة بتحويل البيت ومحتوياته الى متحف جاير اندرسون باشا. وفى عام 2005 تم تنفيذ هذا المشروع (1) تحت اشراف المجلس الاعلى للآثار بمصر.

وقد اطلق على المشروع رسميا (( الكتالوج المتكامل عن الصنج الزجاجية وأختام الاوانى والاوزان المستديرة المحفوظة بمتحف جاير اندرسون وقد شارك فى تنفيذ هذا المشروع اربعه اشخاص هم: الاستاذ الدكتور / جيرى باكاراك الاستاذ بجامعة واشنطن سياتل وابرز المتخصصين فى مجال المسكوكات الاسلامية على مستوى العالم، و الاستاذ الدكتور/ رأفت محمد محمد النبراوى العميد السابق لكلية الآثار جامعة القاهرة وأستاذ الآثار و المسكوكات الاسلامية بها، والسيد شريف سيد انور المدرس المساعد بكلية الآثار جامعة القاهرة و الذى يقوم بإعداد رسالته للدكتوراة و السيد احمد محمد يوسف المعيد بنفس الكلية و الذى يقوم بإعداد رسالته للماجيستير وهما مسجلين لرسالتيهما تحت اشرافنا وأتوقع لهما مستقبلا باهرا.

(1) ومن اسباب نجاح تنفيذ هذا المشروع الدعم الذى حصلنا عليه من السيد الدكتور / زاهى حواس الامين العام للمجلس الاعلى للآثار و السيد نيكولاس ورنر مدير المهمة الانجليزية لمتحف جاير اندرسون، و السيد/ احمد سعد مدير متحف اندرسون، و السيد محسن حلمى راشد المدير المساعد للمتحف، و السيدة سمية محمد توفيق المشرفة على مجموعة الصنج الزجاجية الاسلامية بالمتحف، و الدكتور جيرى اسكوت مدير مركز البحوث الامريكى بمصر، و السيدة /شارى ساندرز مدير المنح بمركز البحوث الامريكى. ونقدم لهم جميعا الشكر. وقد تم تنفيذ المشروع بمنحة من مركز البحوث الامريكى بمصر.

ويوضح عنوان هذا المشروع ان ما قمنا به وكذلك الطرق العلمية التى استخدمناها فى هذا المشروع تختلف عن تلك المستخدمه فى الدراسات السابقة للزجاج الاسلامى المصنوع بمصر على شكل قطع النقود ويحمل كتابات. فقد قمنا اولا باستنباط معلوماتنا فى شكل رقمى وهذا افضل من كتابتها ثم طبعها. ولهذا المشروع العديد من المميزات منها:

أولا: ان هذا العمل يشتمل على جميع القطع بمجموعة اندرسون.

ثانيا: تم تصوير كل قطعة منها بالالون وفى الماضى كانت طباعة الكتالوجات بالالون تتكلف اثمانا باهظة.

ثالثا: ان البيانات الاساسية لجميع القطع وهى الكتابات و الوزن و الحجم اصبحت متاحة لكل الداراسين فى كل انحاء العالم. ونظرا لان كتالوجات الصنج الزجاجية الاسلامية عالية التكاليف فان معظم المكتبات لم تستطيع شرائها واقتنائها. هذا بالاضافة الى ان دراسة المجموعات الموجودة فى بقاع العالم ليس دائما سهلا خاصة اذا كان الشخص يقيم خارج المدينة الموجود بها المجموعة. وباستخدام النشر الاليكترونى القائم على نظام web يمكن لأى شخص فى اى مكان الحصول على المعلومات المطلوبة .

وقد اطلق على هذا المشروع " الكتالوج المتكامل Sylloge " لأنه يشتمل على جميع القطع وان كل قطعة منها لها بياناتها كاملة وهى الكتابات و الاوزان و الاقطار و الصور. وخلال القرن العشرين قامت بعض المتاحف و المجموعات الخاصة بإعادة تصوير كل قطعة مقروءة فى مجموعاتها اليونانية او الرومانية حتى يتمكن الباحثين من دراسة الاختلافات بين قوالب الضرب التى سكت بها النقود. اما كتالوجات النقود الاسلامية فقد بدأت تظهر بشكلها المتكامل فقط خلال العقد الاخير من القرن العشرين واشتملت على اجزاء من مجموعات النقود الاسلامية المحفوظة بجامعة توبنجن بألمانيا ومتحف الاشموليين بأكسفورد بالمملكة المتحدة. وفى هذا الكتالوج المتكامل فقد تم اعادة طبع ( تصوير) جميع الصنج الزجاجية المحفوظة بمتحف جاير اندرسون باستخدام تقنية التصوير بالمسح الضوئى حيث تم اعداد كتالوج شامل لكل قطعة سواء كانت مقروءة أو غير مقروءة والتى سوف يشار الى اهميتها فيما بعد. اذ ان هذا الكتالوج ليس فقط لتحليل كل قطعة ولكن ايضا لعرض جميع المعلومات المطلوبة للداراسين للقيام بعمل ابحاثهم العلمية.

ويشير مصطلح " الزجاج المختوم " الى ثلاثة اصناف هى: الصنج الزجاجية و اختام الاوانى الزجاجية و الاوزان المستديرة والتى وردت عليها النقوش العربية أو فى بعض الاحيان التصميمات وأشكال الكائنات الحيه وغير ذلك مما قد ضربت به هذه الاوزان. وقد استخدمت الصنج الزجاجية فى أول الامر كأوزان لتعير عليها الدنانير الذهبية و الدراهم الفضية و الفلوس النحاسية فى بعض الاصناف و التى كانت توزن بها عندما كانت اوزان النقود تختلف عن اوزان تلك القطع الزجاجية.

واشتملت الصنج الزجاجية التى ترجع الى العصر الاموى وبداية العصر العباسى على معلومات عن اسم الحاكم وعامله على الخراج وقيمة الوزن، بينما كانت الاوزان المستديرة عبارة عن اختام زجاجية مستطيلة الشكل لها ثقب من الوسط وكانت تستعمل لوزن القطع الثقيلة.

وعن طريقة صناعة اختام الاوانى فكانت تتم بوضع كميه من الزجاج المنصهر فى اناء ويتم ختمها بقالب معدنى وكان ينتج عن هذه الطريقة فقاعات هوائية خلف المركز عند منطقة ضغط الماكينة وذلك حتى تظل ساخنة لفترة طويلة.

واستعملت الاوزان الثقيلة فى الاسواق لاتمام العمليات التجارية وكانت كتاباتها تشتمل على اسم الوالى واسم المشرف على دار العيار و ذكر نوع المادة الموجودة داخل الاناء كالفول و الزيت والإعشاب و المشروبات الكحولية وأدوات التجميل وغيرها من المواد وكذلك ذكر وزن المحتوى فى بعض الاصناف.

وقد ركزت معظم الاعمال العلمية للاختام الزجاجية على تلك القطع التى ترجع الى العصرين الاموى و العباسى نظرا لما تحتوية من معلومات تاريخية قلت مع بداية العصر العباسى كما هو الحال بمجموعة جاير اندرسون التى تضم القليل منها.

ولا توجد لدينا معلومات عن كيفية اقتناء جاير اندرسون لهذه المجموعة غير أن الطريقة التى سجلت بها هذه القطع زودتنا ببعض المعلومات وهذه القطع يبلغ عددها حوالى الف صنجة زجاجية كانت مسجله تحت رقم واحد وربما ان جاير اندرسون قد اقتناهم كمجموعة مستقلة كما ان الشخص الذى قام بتسجيل هذه الصنج قد تمكن من قراءة كتابات الكثير منها لان ترقيمها بدأ بالقطع التى ترجع لبداية العصر الاموى وكذلك الصنج العباسية وبعدها الاعداد الضخمة من الصنج الفاطمية ( 65% ) والصنج المملوكيه ( 10% ) ولم يلتزم الشخص الذى قام بتسجيلها بإتباع التسلسل التاريخى فى عمله.

ويوجد بمجموعة اندرسون حوالى 18% من القطع بعض كتاباتها غير مقروءة و البعض الاخر لا تحمل اية كتابات ولم يستطع اندرسون قراءتها واعتبرها جزءا من مجموعته. وبسبب اختلاف الترقيم فإننا نعتقد ان جاير اندرسون قد سمع عن الاوزن الثقيلة التى تم اكتشافها ونشرها فقام بشراء حوالى سبعين قطعة من الاختام على انها من الاوزان الثقيلة ونصفها يرجع للعصر الاموى وبداية العصر العباسى. وأخيرا فإننا نعتقد ان جاير اندرسون استطاع الحصول على كسر اخرى من الاوزان المستديرة لضمها الى مجموعته و الدليل على ذلك اختلاف ارقام تسجيل تلك الاوزان وحفظها فى مكان مختلف.

وبمقارنة مجموعة اندرسون مع المجموعات الاخرى يتضح لنا ان مقتنيات جاير اندرسون لا يوجد بها الا اعداد قليلة صنعت فى العصر الاموى وبداية العصر العباسى وهى التى كانت موجودة بالقاهرة فى تلك الفترة ويبدو ان جاير اندرسون لم يستطيع قراءة بعض كتاباتها ولم يكن يعرف ما يملكه منها لان التجار كانوا يبيعون له النماذج التى ليست عليها اقبال فى الشراء.

وقد اثبتت مجموعة الصنج الزجاجية بمتحف جاير اندرسون حدوث طفرة فى انتاج الزجاج فى العصر الفاطمى ( 358 -567 هـ / 969 – 1171 م ) ومقارنته بالنتائج التى نشرت عن القطع الفاطمية بمتحف براغ فان معظم الصنج الزجاجية ( حوالى 95% من القطع الفاطمية بمجموعة اندرسون ) قد صنعت فى عهد الخلفاء الفاطمين الخمس الاوائل وخاصة خلال فترة الخليفة الحاكم بأمر الله ( 386 – 411 هـ / 966 – 1020 م ) التى بلغت حوالى 31% من عدد الصنج الزجاجية الفاطمية. وكان الكثير من الصنج الزجاجية الفاطمية صعبة القراءة وغير واضحة نقوشها وبعد ذلك اصبح من السهل التعرف عليها ونسبتها الى العصر الفاطمى وبالتحديد نسبتها الى خليفة فاطمى بعينه . وتضم مجموعة جاير اندرسون نماذج تنسب الى العصر الايوبى وعصر سلاطين المماليك ( 648 – 923 هـ / 1250 – 1517 م ) وهى تتميز بوجود صور و تصميمات هندسية بدلا من الكتابات. والزجاج المملوكى المختوم لا زال يحتاج الى الدراسة و البحث. ومن القطع الهامة وغير العادية بمتحف جاير اندرسون صنجتين طولونيتين ونماذج قليلة تنسب للعصر الايوبى.

وعند قيامنا بإعداد هذا المشروع تم مراعاة الدقة فى قراءة كتابات الصنج الزجاجية وكذلك الاختام المحفوظة بمتحف اندرسون وتسجيلها بنفس ترتيبها وعدد سطورها كما وردت بها على القطعة الزجاجية. وقامت مجموعة العمل بوزن كل قطعة منها على حدة وقياس قطرها فى دراسة من نوع جديد تماما عن هذه المجموعة وكذلك تصويرها جميعا و الحاق العمل العلمى بقوائم للعبارات التى وردت عليها وكذلك الاسماء و الالقاب التى سجلت عليها مرتبه ترتيبا ابجديا وغير ذلك.

وأخيرا فان هذا المشروع له العديد من المميزات منها تدريب الدارسين المصريين على كيفية دراسة النماذج الموجودة بالمتاحف العامة و المجموعات الخاصة وإكسابهم خبرة فى هذا المجال العلمى.

ونتمنى من الله عز وجل ان يكون هذا المشروع بداية لدراسة مجموعات الصنج و النقود الاسلامية بالمتاحف المصرية مثل متحف الفن الاسلامى بالقاهرة ومتحف طنطا وإعادة تصوير النقود المحفوظة بدار الكتب المصرية. ولا يفوتنى ان اتقدم بخالص شكرى للبروفيسير جيرى باكاراك على موافقته السماح لكل من شريف سيد انور واحمد يوسف المشاركه فى هذا العمل مما منحهما فرصة نادرة للتدريب تحت اشرافنا و اكتساب خبرة غير مسبوقة لأقرانهم فى مجال دراسة الصنج الزجاجية للسكة الاسلامية ووصفها وقراءة كتاباتها حيث عاد هذا المشروع عليهما بفائدة علمية هامة.

أستاذ دكتور/ رأفت محمد محمد النبراوى

استاذ الآثار و المسكوكات الاسلامية

عميد كلية الآثار السابق – جامعة القاهرة